الخلافة العباسية
استمرت الخلافة العباسية في المشرق من سنة 132 إلى 656 للهجرة أي لمدة 524
سنة، و بقي للعباسيين بعد ذلك الخلافة بمصر إلى سنة 923 للهجرة.
و تعد الدولة العباسية كما يقول ابن طبا طبا كثيرة المحاسن، جمة المكارم،
أسواق العلوم فيها قائمة، و بضائع الآداب فيها نافقة، و شعائر الدين فيها
معظمة، و الخيرات فيها دائرة، و الدنيا عامرة، و الحرمات مرعية، و الثغور
محصنة، و مازالت على ذلك حتى أواخر أيامها، فأنتشر الشر، و اضطرب الأمر.
و قد قسم المؤرخون إجمالا مدة الخلافة إلى ثلاثة عصور رئيسية هي:
العصر العباسي الأول: يمتد في الفترة من 132 إلى 232 للهجرة
العصر العباسي الثاني: يمتد في الفترة من 232 إلى 590 للهجرة
العصر العباسي الثالث: يمتد في الفترة من 590 إلى 656 للهجرة
الحركة العلمية في العصر العباسي
شهدت الحياة الفكرية في العصر العباسي ازدهارا كبيرا في شتى الميادين، يعود
سببه إلى ظهور الكثير من العلماء والمفكرين في مختلف العلوم وانتشار حركة
الترجمة واهتمام الخلفاء بها، إضافة إلى التوسع في التعليم العام وبناء
المدارس والمؤسسات الثقافية مثل دور العلم والربط فضلا عن المساجد. ومن
العلماء البارزين في اللغة والأدب والشعر الخليل بن احمد الفراهيدي في علم
النحو والعروض (نظم الشعر) وعمرو بن الجاحظ في الأدب والبلاغة والأصمعي في
الأدب واللغة, كما تميز الإمام بن ثابت الكوفي المعروف بابي حنيفة والقاضي
أبي يوسف في علم الفقه. أما شعراء هذا العصر فمن أبرزهم أبو العتاهية
والعباس بن الأحنف وأبو تمام الطائي و البحتري والمتنبي والشريف الرضي وأبو
العلاء المعري وأبو نواس ومن المؤرخين البارزين محمد بن جرير الطبري و
اليعقوبي وبرز في الجغرافية المسعودي أما في الرياضيات والفيزياء فقد برز
أبو الحسن بن الهيثم وفي علم الجبر محمد بن موسى الخوارزمي وفي الكيمياء
جابر بن حيان وغيرهم كثيرون ممن ترجمت مؤلفاتهم إلى اللغات الأوربية
واستفيد منها في النهضة الأوربية الحديثة. وقد اهتم الخلفاء بالعلم
والعلماء فقربوهم وشجعوهم فكان لذلك أثره الكبير على الرقي الفكري في هذا
العصر، وأبرزهم الخليفة هارون الرشيد الذي اشتهر بتقريبه العلماء والفقهاء
والأدباء والشعراء والكتاب وتشجيعهم على البحث والتأليف وتوفير كل ما
يحتاجون إليه في بحوثهم ودراساتهم.
اثر تطور العلم في العصر العباسي
يظهر اثر تطور العلم في هذا العصر في إنشاء المدارس ومن أهمها 1 المدرسة
المستنصرية تقع في الجانب الشرقي من بغداد على رأس جسر الشهداء وتمتد
جبهتها على ضفة دجلة, شيدها المستنصر بالله الخليفة العباسي السابع
والثلاثون (623-640)هجرية -(1226-1242)م.وقد بدأ بإنشائها
سنة652هجرية-1227م واكتملت سنة 631هجرية -1233م ،وقد انفق على بنائها
700الف دينار ذهب و أوقف عليها أملاكا كثيرة تقدر بمليوني دينا يدر عليها
دخلا سنويا يقدر بسبعين ألف دينار . والمدرسة المستنصرية تعد أقدم جامعة في
العلم من حيث تنوع مواضيع الدراسة فيها إذ كانت تدرس فيها علوم القرآن
والفقه والفلسفة والحديث والعلوم التطبيقية كالطب والصيدلة والرياضيات
وغيرها. وكانت تشتمل على جميع المستلزمات الضرورية كالمسجد وحجر الدرس
والسكن والطعام وخزانة كتب عامرة قدرت بنحو ثمانين ألف مجلد ومستشفى
وصيدلية وساعة عجيبة وخازن وحمام وبستان، ومن ملحقاتها دار القرآن ودار
الحديث. '2المدرسة النظامية وهي أول مدرسة بنيت سنة 459هجرية بناها الوزير
السلجوقي نظام الملك'وهو وزير محب للعلم نسبت إلى اسمه فسميت بالنظامية وهي
من المدارس الحسنة البناء المتعددة المرافق ولم تخل أي مدينة من هذه
المدرسة أهمها تلك في بغداد التي فتحت أبوابها للدارسين بعد عامين من بداية
إنشائها وكان يدرس فيها الفقه والعلوم الإسلامية. ومن أهم مدرسيها الإمام
الغزالي ، كما زارها الرحالة ابن جبير 'وقال عنها أنها أعظم مدارس بغداد
وظل بناؤها قائما حتى القرن الخامس الهجري ولم يقتصر الإقبال على هذه
المدارس على الطلاب فقط, بل شمل أيضا الأساتذة الذين تطلعوا إلى التدريس
بتا حتى وصل الأمر بعضهم إلى أن يضحي في سبيل هذه الغاية بالتخلي عن مذهبه
في عصر كان التعصب المذهبي سمة من سماته البارزة, ومن هؤلاء:أبو الفتح أحمد
بن علي بن تركان المعرف بابن الحمامي ت 518هجرية كان حنبليا,فانتقل إلى
المذهب الشافعي, وتفقه فيه على يد أبي بكر الشاشي والغزالي فجعله أصحاب
الشافعية مدرسا بالنظامية,ويبدو أن انتقال الحنابلة إلى المذهب الشافعي في
هذه الفترة كان أمرا كثير الحدوث بدرجة أزعجت أحد ائمتهم وهو أبو الوفاء بن
عقيلت513هجرية حيث ينقل عنه أبو الفرج بن الحوزي قوله: أن أكثر أعمال
الناس لا يقع إلا للناس إلا من عصم الله. أي أن معظم الناس لا يبتغون
بأعمالهم وجه الله :وإنما يحاولون التقرب بها إلى ذوي النفوذ والجاه طمعا
في متاع الحياة الدنيا, وقد وجد أبو الوفاء المثل على ذلك في انتقال الكثير
من أصحاب المذاهب إلى المذهب الأشعري والشافعي بعدما عظم شأن هؤلاء عند
الخلفاء، طمعا في المال والجاه . كانت ما تتلقاه هذه المدرسة من الأوقاف
يكفي لتوفي كل المستلزمات للدارسين و الأساتذة. 3المدرسة الشرابية (القصر
العباسي) يعد من أبرز المعلم العباسية الشاخصة اليوم في بغداد وهو بناء فخم
فريد في هندسته وتخطيط عمارته ، يعود تاريخ تشييده إلى القرن السابع
للهجرة, ويذهب بعض الباحثين إلى انه دار الامسناة التي تنسب للخليفة الناصر
لدين الله العباسي (575-622هجرية) بينما يذكر لفيف آخر منهم إلى انه
المدرسة الشرابية التي شيدها شرف الدين إقبال الشرابي مقدم الجيوش في زمن
الخليفة المستنصر بالله والمعتصم بالله العباسيين. وتذكر المصادر التاريخية
أن بناء المدرسة الشرابية قد أكمل في سنة 628هجرية. ويتألف هذا البناء
العباسي من طابقين يحيطان بصحن واسع مستطيل الشكل مساحته 430مترا مربع
ويتوسط الضلع الشرقي إيوان كبير ارتفاعه نحو 9م وتوجد مجموعة من الحجر
والقاعات في كل طابق. وان جميع واجهات البناية مزدانة بزخارف آجريه جميلة
التكوين تتألف من عناصر هندسية ونباتية وأبرز الحليات المعمارية تشاهد في
الرواق الجنوبي. وهناك الكثير من المدارس الأخرى من أبرزها المدرسة
المرجانية والعصمتية ومدرسة سابورين بن اردشير التي قال عنها الإمام السبكي
:أنها أول مدرسة فتحت للفقهاء ... ولم يكن التعليم فقط في المدارس بل كان
منتشرا في الحلقات العلمية المختلفة في هذا العصر وكان لكل فرع من المعرفة
حلقته أو حلقاته الخاصة.. ومن أبرز الحلقات كانت حلقة المتكلمين لما يجري
فيها من مناظرات ومحاورات بينهم وبين أصحاب الملل والنحل. وكان يتخلق
كثيرون في حلقات اللغويين والنحاة, ويقال أنه كان يحضر حلقة ابن الإعرابي
الكوفي زهاء مائة شخص, وكثيرا ما كانت تحتدم المناظرات بين أصحابها على نحو
ما يروى مسألة محاورا ومناقشا مناقشات مستفيضة. وكانت هناك حلقات للفقهاء
والمحدثين والمفسرين والنحويين والشعراء والقصاص وغيرهم. وهذه الحلقات
الكثيرة لم يكن يشترط للحضور فيها أي شرط سوى التزام قواعد السماع وآداب
الحوار والمناظرة (التي جاء على ذكرها عدد من الأدباء والفقهاء والمتكلمين,
وفي مقدمتهم الغزالي..). والملاحظ في هذا العصر كثرة العلماء والمتخصصين
في كل علم وفن, حتى ليروى أن النضر بن شميل تلميذ الخليل بن أحمد حين عزم
على الخروج من البصرة إلى خراسان شيعه نحو ثلاثة آلاف شخص بين محدث ولغوي
ونحوي وأخباري. وإذا كانت البصرة قد اشتملت على هذا العدد الوفير من
العلماء فأنه مما لاشك فيه أن بغداد كانت تضم منهم أضعاف ذلك.
من الظواهر التي برزت في هذا العصر أيضا هي دور الوراقين المعروفة اليوم
بالمكتبات ومن أهمها مكتبة دار الحكمة أو بيت الحكمة التي أنشأها الخليفة
هارون الرشيد وعمل ابنه المأمون من بعده على إمدادها بمختلف الكتب في الطب
والفلسفة والرياضيات ومختلف المخطوطات الآرامية واليونانية والهندية
والمصنفات, فصارت تحتوي على جميع الكتب في العلوم, كما كان للعلماء والكتاب
الذين يتقاضون وزن الكتب ذهبا والمترجمين الذين ينقلون الكتب من وإلى
اللغة العربية والأدباء الذين كانوا يرتادونها أكبر الأثر في تقدم الحركة
العلمية ونشر الثقافة العربية وروى ابن خلكان: انه في إحدى مدارس نيسابور,
كان يوجد خمسمائة دواة معدة لمن يريد الكتابة, وأن الحاكم وبأمر الله
الفاطمي' قد انفق على مكتبته التي أنشأها في القاهرة أموالا طائلة, وذكر:
أن الصاحب بن عباد أوقف مكتبته عل الري. وروى ياقوت أن مرو كان فيها في
مطلع القرن السابع الهجري عشر خزائن للوقوف جميعها مجانية, والإعارة فيها
دون رهن, (معجم البلدان :8/36). أما مكتبة سابور بن أردشير وزير بهاء
الدولة البويهي التي أنشأها في حي الكرخ في بغداد سنة382هجرية كجزء من دار
العلم, فقد أوقف عليها أوقافا كثيرة, وبلغ مجموع كتبها عشرة ألاف مجلد,
معظمها بخط أصحابها . والمكتبات في هذا العصر لم تكن مجرد أماكن لبيع الكتب
إنما كان أصحابها من الأدباء ويجتمع فيها من العلماء والأدباء للمناقشة
وطرح الأسئلة وكانت المكتبات على ثلاثة أنواع منها العامة التي تعير الكتب
لعامة الناس وللفقراء والطلاب ، والخاصة التي كانت موجودة في بيوت الخلفاء
والأمراء والأغنياء، والمكتبات بين العامة والخاصة التي تعير الكتب لطبقة
معينة من العلماء والطلاب
النهضة الثقافية في الدولة العباسية
من الطبيعي إن يكون العصر العباسي الأول أنسب العصور ملائمة للنهضة
الثقافية، فقد بدأ الاستقرار فيه و أنتظم ميزان الأمة الاقتصادي، و كانت
النهضة العلمية في العصر الأول تتمثل في ثلاثة جوانب هي:
الجانب الأول: حركة التصنيف
من أشهر المصنفين في هذا العصر مالك الذي ألف الموطأ، و ابن إسحاق الذي كتب
السيرة، و أبو حنيفة الذي صنف الفقه و الرأي. و يرجع إلى أبي جعفر المنصور
الفضل في توجيه العلماء هذا الاتجاه، و قد كان المنصور كما يقول السيوطي
كامل العقل، جيد المشاركة في العلم و الأدب، فقيها تلقى العلم عن أبيه و عن
عطاء بن ياسر. و تطورت العلوم في العصر العباسي الأول و انتقلت من مرحلة
التلقين الشفوي إلى مرحلة التدوين والتوثيق في كتب وموسوعات.
الجانب الثاني: تنظيم العلوم الإسلامية
وصلت العلوم الإسلامية درجة عالية من الدقة و التنظيم في العصر العباسي الأول:
فقد شهد هذا العصر ميلاد علم تفسير القرآن و فصله عن علم الحديث.
و عاش في هذا العصر أئمة الفقه الأربعة: أبو حنيفة (150 للهجرة)، و مالك
(179 للهجرة)، و الشافعي (204 للهجرة)، و ابن حنبل (241 للهجرة).
وظهرت في الفقه الإسلامي مدرستان علميتان كبيرتان هما مدرسة أهل الرأي في العراق، ومدرسة أهل الحديث في المدينة المنورة.
وحفل هذا العصر أيضًا بأئمة النحو وظهرت في علوم اللغة مدرستان علميتان
هما: مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، فقد عاش في هذا العصر من أئمة النحاة
البصريين عيسى بن عمر الثقفي (149 للهجرة)، و أبو عمرو بن العلاء (154
للهجرة)، و الخليل بن احمد (175 للهجرة)، و الأخفش (177 للهجرة)، و سيبويه
(180 للهجرة)، و يونس بن حبيب (182 للهجرة)، و من الأئمة الكوفيين أبو جعفر
الرؤاسي، و الكسائي، و الفراء (208 للهجرة).
التاريخ و مولده: قويت في العصر العباسي الأول فكرة استقلال علم السيرة عن
الحديث، و وجدت من ينفذها تنفيذا علميا دقيقا، و هو محمد بن إسحاق (152
للهجرة تقريبا) و كتابه في السيرة من أقدمها في هذا الموضوع، و قد وصلنا
هذا الكتاب بعد أن اختصره ابن هشام (218 للهجرة) في كتابه المعروف بسيرة
ابن هشام، و من أشهر من صنف في التاريخ في هذا العصر العلامة محمد بن عمر
الواقدي (207 للهجرة تقريبا) فقد ألف كتاب التاريخ الكبير الذي اعتمد عليه
الطبري كثيرا حتى حوادث سنة 179، أما الكتاب نفسه فلم يصح وروده لنا، و
للواقدي كتاب آخر يعرف بالمغازي و هو بين أيدينا، و ليس هذا كل ما وصل لنا
من علم الواقدي، فإن علمه قد جاءنا عن طريق شخص آخر من مؤرخي هذا العصر
أيضا و هو كاتبه محمد بن سعد (230 للهجرة) الذي كانت شهرته كاتب الواقدي، و
قد خلف لنا محمد بن سعد كتابه القيم الطبقات الكبرى و هو في ثمانية أجزاء
يتحدث في الجزء الأول و الثاني عن سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم و في
الأجزاء الستة الباقية عن أخبار الصحابة و التابعين، و محمد بن سعد هذا هو
أحد شيوخ العلامة البلاذري (279 للهجرة).
الجانب الثالث: الترجمة من اللغات الأجنبية
في عام 145 للهجرة وضع المنصور حجر الأساس للعاصمة الجديدة بغداد، و جمع
حوله فيها صفوة العلماء من مختلف النواحي، و شجع على ترجمة كتب العلوم و
الآداب من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، و استجاب له كثير من الباحثين،
من أبرزهم ابن المقفع الذي ترجم كتاب كليلة و دمنة (757 للميلاد) و الطبيب
النسطوري جورجيس بن بختيشوع (771 للميلاد)، و بختيشوع بن جورجيس (801
للميلاد)، و جبريل تلميذ بختيشوع (809 للميلاد)، و الحجاج ابن يوسف بن مطر
(الذي ذاع اسمه بين سنتي 786 و 863 للميلاد).
و لم يكتف المسلمون بمجرد الترجمة بل كانوا يبدعون ويضيفون إلى كل علم
يترجمونه. كما لعب المسلمون بهذا دورا كبيرا في خدمة الثقافة العالمية، فقد
أنقذوا هذه العلوم من فناء محقق، إذ تسلموا هذه الكتب في عصور الظلام،
فبعثوا فيها الحياة، و عن طريق معاهدهم و جامعاتهم و أبحاثهم وصلت هذه
الدراسات إلى أوروبا، فترجمت مجموعات كبيرة من اللغة العربية إلى
اللاتينية، و قد كان ذلك أساسا لثقافة أوروبا الحديثة، و من أهم الأسباب
التي أدت إلى النهضة الأوروبية.
وأنشئ في هذا العصر بيت الحكمة و هو أول مجمع علمي و معه مرصد و مكتبة
جامعة و هيئة للترجمة، وصل إلى أوج نشاطه العلمي في التصنيف والترجمة في
عهد المأمون الذي أولاه عناية فائقة، ووهبه كثيرا من ماله ووقته، وكان يشرف
على بيت الحكمة قيّم يدير شئونه، ويُختار من بين العلماء المتمكنين من
اللغات. وضم بيت الحكمة إلى جانب المترجمين النسّاخين والخازنين الذين
يتولون تخزين الكتب، والمجلدين وغيرهم من العاملين. وكان المرصد من أكبر
المراصد الفلكية في ذلك العصر، عمل فيه أكبر علماء الفلك المسلمين و تمكنوا
من خلاله من تفسير ظاهرة الجاذبية، وتعيين خط العرض وقياس طول محيط الأرض،
وظل بيت الحكمة قائما حتى داهم المغول بغداد سنة 656 للهجرة الموافق 1258
للميلاد